من الأبحاث التي تطرَّق إليها الحكماء، هو الحديث عن النظام الإلهي، وأنَّه هو النظام الأتم الأكمل الأحسن، وذلك لأنَّ فيضه سبحانه دائم، فمن المستحيل تصوّر النقصان في فيوضاته على العالمين. وهذا الأمر غير خاضع للزمان والمكان مطلقاً، فنظام الكون دائماً هو الأحسن، وعليه يكون أحسن ما خلق هو الأوَّل وهو الآخر، وبما أنَّ النبي الأكرم هو أحسن الخلق وهو الأفضل من جميع الأنبياء -كما ثبت في الأبحاث السابقة- فهو أوَّل ما خلق الله.
وجميع الأنوار إنّما هي إشعاع لذلك النور الأوَّل المنبثق من النور المطلق، فلا بد من نور شديد به تظهر سائر الأنوار، وإلا سوف ينقطع الفيض الإلهي، أعني كلّ صفات الجمال والكمال، فالجميل المطلق قد ظهر في أحسن موجود كما أن الكريم المطلق تجلى وظهر بكرمه والقدير المطلق ظهر بقدرته، فالذي هو مظهر لتلك الصفات هو وجه الله، ولابد أن يكون موجوداً في كلِّ زمان وهو حجَّة زمانه الذي ورد في الحديث عنه:
{ لولا الحجة }
وقال تعالى :
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَـلاَلِ وَالإِكْرَامِ} (الرحمن26،27)
والمقصود من الوجه هي الفيوضات التي تمثِّل الواجهة والمرآة الإلهية، فضمير في "ربِّك" إشارة إلى خصوص ربِّ الرسول صلى الله عليه وآله، ومن هنا اتُّصف بذي الجلال والإكرام.
وفي دعاء الندبة :
(( أين وجه الله الذي منه يُؤتى ))
ولتوضيح هذه الحقيقة نذكر مثالاً :
لو فرضنا أنَّ شلاّلا ينـزل من جبلٍ عالٍ، فمن الطبيعي أن يمرَّ من خلال البحر ثمَّ الشط ثمَّ الأنهار فالجداول، وكلّ واحدة منها هي واسطة الفيض إلى ما دونها.حينئذٍ نتساءل : هل بإمكان الإنسان أن يشرب الماء من غير التوسُّل بتلك الوسائط؟
لو حاول ذلك وهو غير قابل لهلك، لأنَّ الوعاء الذي يمتلكه لا يستوعب المـاء، فيبقى عطشاناً وهو يجاور الماء. فالحل الوحيد لمثل هذا الإنسان هو الإبتعاد من المصدر والتقرُّب إلى وسائط الفيض، جاء في الدعاء :
((إنّا توجَّهنا واستشفعنا وتوسَّلنا بك إلى الله وقدَّمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله))
وهذه الحقيقة قد بيِّنت في قوله تعالى :
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر21)
كيف والجبل مهما عظم فهو جماد لا يستوعب كلام الله تعالى، فأين التراب وربِّ الأرباب، ومن هنا يقول سبحانه :
{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر21)
قال صدر الحكماء المتألّهين وشيخ العرفاء الكاملين في الأسفار:
"إعلم أيّها المسكين، أنّ هذا القرآن أُنزل من الحق إلى الخلق مع ألف حجاب لأجل ضعفاء عيون القلوب وخفافيش أبصار البصائر، فلو فرض أنّ باء بسم اللّه مع عظمته التي كانت له في اللّوح نزل إلى العرش لذاب واضمحلّ، ( الاداره : لا تغلط ) يف إلى السماء الدنيا. وفي قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر21) إشارة إلى هذا المعنى"
وتعليقاً على ذلك قال الإمام قدس سرُّه :
"و هذا الكلام صادر عن معدن المعرفة،مأخوذ عن مشكوة الوحي والنبوة"
أقـول:
ولهذا قال تعالى بعد ذلك :
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر24:22)
و الجدير بالذكر أنَّها آيات ثلاثة وكلِّ واحدة منها تبدأ بـ "هو الله".
قال الإمام قدِّس سرُّه:
" الآية الشريفة الأولى مشيرة إلى أسماء الصفات، والآية
الثانية إلى أسماء الذات، والآية الثالثة إلى أسماء الأفعال."
هذا:
ولاحظ قوله تعالى :
{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ*قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً*نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً*أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل4:1)
كلُّ هذه العبادات لماذا؟ قال تعالى :
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (المزمل5)
فهل بإمكاننا -نحن القُصَّر- أن نصل إلى شيء من مستوى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم!
ومن المناسب هنا الحديث عن آية النور ذات المحتوى العرفاني العميق،قال تعالى:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور35)
أقـول :
ظاهر المثال هو نوع من التشبيه لنور الله –جلّ شأنه- كمشكاة فيها مصباح وهو سراج والمصباح في قنديل من الزجاج وهو مضيء متلألئ كأنَّه كوكب درِّي، وهذا المصباح يتوقَّد من شجره مباركة هي شجرة الزيتون المتكاثر نفعها والشجرة لبركتها وردت مبهمة، كما أنَّ الزيتونة لفخامة شأنها جاءت بدلاً من الشجرة، وهي لا شرقية، ولا غربية، تسطع الشمس عليها بنحو متواصل من غير انقطاع، كالتي على قمَّة جبل، أو صحراء واسعة، فان ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى. أو أنَّهما إشارة إلى أرض الشام الواقعة في وسط المعمورة لا شرقها ولا غربها، فإن زيتونه أجود الزيتون أو أنَّه لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها ولا مقناة تغيب عنها دائماً فيتركها نياً وفي الحديث :
((لا خير فى شجرة ولا فى نبات فى مقناة ولا خير فيها في مضحى))
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وذلك لتلألئه وبياضه الشديد، فجميع تلك الأمور ضاعفت في النور ولم تنقص منه أصلاً، فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت والقنديل وضبط المشكاة، فهو نور على نور وإن كان النور حقيقة من المعدن، كما جاء في المناجاة الشعبانية:
((إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك))
ولكن عند التأمل في الأحاديث الشريفة التي وردت في تفسير الآية المباركة والآية التي بعدها، وملاحظة القرائن المحيطة بها، نصل إلى النتيجة التالية :
عند ملاحظة سياق الآيات، نرى أنَّها تنوِّه إلى حقيقة واحدة وهي :
إنَّ الله هو نور السماوات والأرض، إنَّ هذا ليس هو إلاّ مثالٌ يشير إلى حقائق أخرى كما أشرنا سابقاًفي بيانالفروق بين النور الحسِّي والحقيقي.
فالأحاديث على اختلافها الظاهري تؤكِّد على أنَّ المصباح هو المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقد جاء في الحديث التالي :
((عن عبد الله بن جندب قال :كتبت إلى أبي الحسن الرضا صلوات الله عليه أسأله عن تفسير هذه الآية ( الاداره : لا تغلط ) تب إلي الجـواب : أما بعد فان محمدا صلى الله عليه واله كان أمين الله فى خلقه فلما قبض النبي كنا أهل البيت ورثته فنحن أمناء الله فى أرضه… مثلنا في كتاب الله عزّ وجل "كمثل مشكوة "المشكوة في القنديل فنحن المشكوة "فيها مصباح " المصباح محمد صلى الله عليه واله)).
وكانوا عليهم السلام يستشهدون بآيات أخرى تعزيزاً لهذا المعنى، فقد ورد في تفسير قوله تعالى :
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ} (البقرة17)
وقوله تعالى :
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا...} (يونس5)
وقوله تعالى:
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (يس37)
((على بن محمد عن على بن العباس عن على بن حماد عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ...في حديث طويل. قال في تفسير الآية المباركة أضاءت الأرض بنور محمدٍ كما تضيء الشمس فضرب الله مثل محمد صلى الله عليه وآله الشمس ومثل الوصي القمر وهو قوله عزّ وجلّ جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقوله وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون)) (الكافى ج8 ص379 روايه574 باب
والجدير بالذكر ما ورد في تفسير الآيتين المباركتين وهما:
قوله تعالى :
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف157)
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (التغابن
((علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام فى قول الله تعالى: "الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث...إلى قوله... فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" قال : النور فى هذا الموضع على أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام)) (الكافى ج1 ص194 روايه2)
((أحمد بن مهران عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنى عن على بن اسباط والحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن أبي خالد الكابلي، قال :سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى فآمنوا باللّه ورسوله والنّور الّذي أنزلنا فقال : يا أبا خالد النور - والله- الأئمة عليهم السلام يا ابا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ويغشاهم بها)) (الكافي ج1 ص195 رواية4)
وقال تعالى في شأن رسوله صلوات الله عليه :
{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الاحزاب46)
وأمّا كلام القوم في تفسير النور :
وقال ابن عباس : من أن المقصود من الآية أنَّ "مثل نور الله الذي يهدي به المؤمن".
وقال الحسن : "مثل هذا القرآن فى القلب كمشكاة".
وقيل : مثل نوره وهو طاعته.
وقال سعيد بن جبير : "النور محمد كأنه قال مثل محمد رسول الله".
وقيل : هو مثل ضُرب لقلب المؤمن.
أقـول:
و لا تعارض بين الأحاديث والأقوال المختلفة في هذا المجال، بل يمكن الجمع بينها فنور الله ليس هو إلا رسوله وهو متَّحد مع القرآن.
ثمَّ :
عندما نتأمَّل في الوسائط التي بيَّنتها الآية المباركة، وهي المشكاة، والمصباح، والزجاجة، سوف نعرف أنَّها لا تمنع من إشعاع النور أصلاً، بل من خلالها يتمكَّن الإنسان من معرفة ذلك النور الوضّاء الذي نوَّر السماوات والأرض، نور الله المطلق، فلا مجال للإنسان أن يشاهد النور الإلهي من غير الانطلاق منها، فهل للخفاش أن يوصف الشمس المضيئة للعالم؟ فما هو الحلّ إذاً؟
الحلّ إنَّما هو التوسُّل بتلك الوسائط والتقرُّب إليها كما مرَّ.
ومما ينبغي ذكره أنَّه تعالى بعد ذكر تلك الوسائط قال :
{نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (النور35)
فمعرفة الأنوار الإلهيَّة ليست من السهل لأيِّ إنسان، بل تفتقر إلى قابلية وتهيُّأ، وهذا لا يحصل إلا بمشيئته الله سبحانه.
ولعلَّ هذا المقطع من الآية إشارة إلى ذلك النور الإلهي الغائب بقيَّة الله في الأرضين الحجَّة بن الحسن المهدي عجَّل الله تعالى فرجه الشريف في خصوص عصر غيبته، حيث أنَّ النور في الآية أضيف إلى الضمير الغائب أعني "لِنُورِه" وأخفى إسم من أسماءه تعالى هو الهاء، كما أنَّ قوله تعالى :
{وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا...} (الزمر69)
يشير إلى عصر ظهوره صلوات الله وسلامه عليه، حينما ينتشر ذلك النور فينوِّر الأرض، وقد ورد في هذا المجال حديث طويل، عن محمد بن أبي عبد الله عن جعفر بن محمد عن القاسم بن الربيع عن صباح المزني عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام (حين ظهور المهدي) :
((يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزؤون بنور الإمام)) (البحار ج7 ص326 روايه1 باب17)
وفي الزيارة الجامعة الكبيرة :
((وأشرقت الأرض بنوركم)) (البحار ج102 ص129 روايه4 باب
ولا يخفى لطافة التعبير في الآية حيث أضيف النور إلى الربّ، في قوله "بِنُورِ رَبِّهَا " وهو أجلى وأظهر أسمائه تعالى.
وفي حديث آخر :
((الكوكب الدرِّي القائمُ المنتظر عليه السلام، الذي يملأ الأرض عدلاً)) (معجم أحاديث الإمام المهدي جلد5 صفحة273)
وعن ابن محبوب عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال :
(( قال لي: لا بدَّ من فتنة صماء صيلم، يسقط فيها كل بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي يبكى عليه أهل السماء وأهل الأرض وكلّ حريٍّ وحرّان وكلّ حزين لهفان، ثم قال : بأبي وأمي سميّ جدي وشبيهي وشبيه موسى بن عمران (عليه السلام)، عليه جيوبُ النور تتوقَّد بشعاع ضياء القدس)) (بحار الأنوار ج51 ص152 روايه2 باب
ونفس النص قد صدر عن أمير المؤمنين عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم (بحار الأنوار ج51 ص108 روايه42 باب1)
ثمَّ قال تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ*رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (النور36،37)
فتلك الأنوار إنَّما هي في بيوت، فما هي تلك البيوت التي احتملت الأنوار المعنويَّة؟
هذا ما يجيب عنه أئمتنا عليهم السلام معتمدين على الآية نفسها.
فالقرآن يشتمل على ظاهر وباطن وقد أشار سبحانه إلى باطنه بقوله:
{وما يعلم تأويله إلا الله} (آل عمران7)
فالظاهر ورود هذه الآية في المساجد. فالمسجد له الأهمية القصوى في الإسلام، لأنه مكان أداء أقدس الأعمال ألا وهو الصلاة.
فالمسجد في ظاهره ليس إلا عبارة عن بناء مكوَّن من التراب والصخر والحديد وكلّها جمادات، إلا أنها لإضافتها باسم الربّ تعالى، فإن شأن المسجد يختلف عن سائر البيوت في الدنيا والآخرة، كما تؤكِّد على ذلك الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة.
بيت النبوَّة والإمامة
ولله أيضاً بيوت ليست من الصخر والطين والحديد، بل إنها من العقل والروح والقلب فهي مختلفة عن سائر البيوت. إن المسجد بيتٌ لإقامة الصلاة، أما بيت العقل والروح والقلب فسكّانه المعرفة والعلم بالله.
وهذا البيت الروحاني هو المقصود الباطني لهذه الآية. فالقلب هو المسجد وبيت الله الحقيقي، وهو مسكن للمعرفة والتوحيد والأسماء الحسنى الإلهية.
ولذلك نعرف السرّ في أهميَّة مشاهد الرسول والأئمة عليهم السلام حيث يجري عليها أحكام المساجد.
ففي روضة الكافى عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل : "فى بيوت أذن الله أن ترفع" قال :
((هي بيوت النبي صلى الله عليه وآله))
وأيضاً :
لما قدم قتادة -وكان فقيهاً عالماً لا يتزعزع أمام كبار العلماء- على الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، وقبل أن ينطق قال له الإمام عليه السلام :
(("ويحك يا قتاده، إن الله تعالى خلق خلقاً من خلقه فجعلهم حججاً على خلقه، وهم أوتادٌ في أرضه، قّوامٌ بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه، أظلّة عن يمين عرشه". قال : فسكت قتاده طويلاً، ثمّ قال : أصلحك الله، والله لقد جلستُ بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك! فقال أبو جعفر عليه السلام : "أتدري أين أنت؟ بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبِّح له فيها بالغدوّ والآصال رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ونحن أولئك". فقال قتادة : صدقت والله، جعلني الله فداك، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين!)) (بحار الأنوار ج10 ص155 والكافي ج6 ص265 ح1
وجميع الأنوار إنّما هي إشعاع لذلك النور الأوَّل المنبثق من النور المطلق، فلا بد من نور شديد به تظهر سائر الأنوار، وإلا سوف ينقطع الفيض الإلهي، أعني كلّ صفات الجمال والكمال، فالجميل المطلق قد ظهر في أحسن موجود كما أن الكريم المطلق تجلى وظهر بكرمه والقدير المطلق ظهر بقدرته، فالذي هو مظهر لتلك الصفات هو وجه الله، ولابد أن يكون موجوداً في كلِّ زمان وهو حجَّة زمانه الذي ورد في الحديث عنه:
{ لولا الحجة }
وقال تعالى :
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَـلاَلِ وَالإِكْرَامِ} (الرحمن26،27)
والمقصود من الوجه هي الفيوضات التي تمثِّل الواجهة والمرآة الإلهية، فضمير في "ربِّك" إشارة إلى خصوص ربِّ الرسول صلى الله عليه وآله، ومن هنا اتُّصف بذي الجلال والإكرام.
وفي دعاء الندبة :
(( أين وجه الله الذي منه يُؤتى ))
ولتوضيح هذه الحقيقة نذكر مثالاً :
لو فرضنا أنَّ شلاّلا ينـزل من جبلٍ عالٍ، فمن الطبيعي أن يمرَّ من خلال البحر ثمَّ الشط ثمَّ الأنهار فالجداول، وكلّ واحدة منها هي واسطة الفيض إلى ما دونها.حينئذٍ نتساءل : هل بإمكان الإنسان أن يشرب الماء من غير التوسُّل بتلك الوسائط؟
لو حاول ذلك وهو غير قابل لهلك، لأنَّ الوعاء الذي يمتلكه لا يستوعب المـاء، فيبقى عطشاناً وهو يجاور الماء. فالحل الوحيد لمثل هذا الإنسان هو الإبتعاد من المصدر والتقرُّب إلى وسائط الفيض، جاء في الدعاء :
((إنّا توجَّهنا واستشفعنا وتوسَّلنا بك إلى الله وقدَّمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله))
وهذه الحقيقة قد بيِّنت في قوله تعالى :
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر21)
كيف والجبل مهما عظم فهو جماد لا يستوعب كلام الله تعالى، فأين التراب وربِّ الأرباب، ومن هنا يقول سبحانه :
{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر21)
قال صدر الحكماء المتألّهين وشيخ العرفاء الكاملين في الأسفار:
"إعلم أيّها المسكين، أنّ هذا القرآن أُنزل من الحق إلى الخلق مع ألف حجاب لأجل ضعفاء عيون القلوب وخفافيش أبصار البصائر، فلو فرض أنّ باء بسم اللّه مع عظمته التي كانت له في اللّوح نزل إلى العرش لذاب واضمحلّ، ( الاداره : لا تغلط ) يف إلى السماء الدنيا. وفي قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر21) إشارة إلى هذا المعنى"
وتعليقاً على ذلك قال الإمام قدس سرُّه :
"و هذا الكلام صادر عن معدن المعرفة،مأخوذ عن مشكوة الوحي والنبوة"
أقـول:
ولهذا قال تعالى بعد ذلك :
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر24:22)
و الجدير بالذكر أنَّها آيات ثلاثة وكلِّ واحدة منها تبدأ بـ "هو الله".
قال الإمام قدِّس سرُّه:
" الآية الشريفة الأولى مشيرة إلى أسماء الصفات، والآية
الثانية إلى أسماء الذات، والآية الثالثة إلى أسماء الأفعال."
هذا:
ولاحظ قوله تعالى :
{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ*قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً*نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً*أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل4:1)
كلُّ هذه العبادات لماذا؟ قال تعالى :
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (المزمل5)
فهل بإمكاننا -نحن القُصَّر- أن نصل إلى شيء من مستوى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم!
ومن المناسب هنا الحديث عن آية النور ذات المحتوى العرفاني العميق،قال تعالى:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور35)
أقـول :
ظاهر المثال هو نوع من التشبيه لنور الله –جلّ شأنه- كمشكاة فيها مصباح وهو سراج والمصباح في قنديل من الزجاج وهو مضيء متلألئ كأنَّه كوكب درِّي، وهذا المصباح يتوقَّد من شجره مباركة هي شجرة الزيتون المتكاثر نفعها والشجرة لبركتها وردت مبهمة، كما أنَّ الزيتونة لفخامة شأنها جاءت بدلاً من الشجرة، وهي لا شرقية، ولا غربية، تسطع الشمس عليها بنحو متواصل من غير انقطاع، كالتي على قمَّة جبل، أو صحراء واسعة، فان ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى. أو أنَّهما إشارة إلى أرض الشام الواقعة في وسط المعمورة لا شرقها ولا غربها، فإن زيتونه أجود الزيتون أو أنَّه لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها ولا مقناة تغيب عنها دائماً فيتركها نياً وفي الحديث :
((لا خير فى شجرة ولا فى نبات فى مقناة ولا خير فيها في مضحى))
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وذلك لتلألئه وبياضه الشديد، فجميع تلك الأمور ضاعفت في النور ولم تنقص منه أصلاً، فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت والقنديل وضبط المشكاة، فهو نور على نور وإن كان النور حقيقة من المعدن، كما جاء في المناجاة الشعبانية:
((إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك))
ولكن عند التأمل في الأحاديث الشريفة التي وردت في تفسير الآية المباركة والآية التي بعدها، وملاحظة القرائن المحيطة بها، نصل إلى النتيجة التالية :
عند ملاحظة سياق الآيات، نرى أنَّها تنوِّه إلى حقيقة واحدة وهي :
إنَّ الله هو نور السماوات والأرض، إنَّ هذا ليس هو إلاّ مثالٌ يشير إلى حقائق أخرى كما أشرنا سابقاًفي بيانالفروق بين النور الحسِّي والحقيقي.
فالأحاديث على اختلافها الظاهري تؤكِّد على أنَّ المصباح هو المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقد جاء في الحديث التالي :
((عن عبد الله بن جندب قال :كتبت إلى أبي الحسن الرضا صلوات الله عليه أسأله عن تفسير هذه الآية ( الاداره : لا تغلط ) تب إلي الجـواب : أما بعد فان محمدا صلى الله عليه واله كان أمين الله فى خلقه فلما قبض النبي كنا أهل البيت ورثته فنحن أمناء الله فى أرضه… مثلنا في كتاب الله عزّ وجل "كمثل مشكوة "المشكوة في القنديل فنحن المشكوة "فيها مصباح " المصباح محمد صلى الله عليه واله)).
وكانوا عليهم السلام يستشهدون بآيات أخرى تعزيزاً لهذا المعنى، فقد ورد في تفسير قوله تعالى :
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ} (البقرة17)
وقوله تعالى :
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا...} (يونس5)
وقوله تعالى:
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (يس37)
((على بن محمد عن على بن العباس عن على بن حماد عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ...في حديث طويل. قال في تفسير الآية المباركة أضاءت الأرض بنور محمدٍ كما تضيء الشمس فضرب الله مثل محمد صلى الله عليه وآله الشمس ومثل الوصي القمر وهو قوله عزّ وجلّ جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقوله وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون)) (الكافى ج8 ص379 روايه574 باب
والجدير بالذكر ما ورد في تفسير الآيتين المباركتين وهما:
قوله تعالى :
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف157)
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (التغابن
((علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام فى قول الله تعالى: "الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث...إلى قوله... فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" قال : النور فى هذا الموضع على أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام)) (الكافى ج1 ص194 روايه2)
((أحمد بن مهران عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنى عن على بن اسباط والحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن أبي خالد الكابلي، قال :سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى فآمنوا باللّه ورسوله والنّور الّذي أنزلنا فقال : يا أبا خالد النور - والله- الأئمة عليهم السلام يا ابا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ويغشاهم بها)) (الكافي ج1 ص195 رواية4)
وقال تعالى في شأن رسوله صلوات الله عليه :
{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (الاحزاب46)
وأمّا كلام القوم في تفسير النور :
وقال ابن عباس : من أن المقصود من الآية أنَّ "مثل نور الله الذي يهدي به المؤمن".
وقال الحسن : "مثل هذا القرآن فى القلب كمشكاة".
وقيل : مثل نوره وهو طاعته.
وقال سعيد بن جبير : "النور محمد كأنه قال مثل محمد رسول الله".
وقيل : هو مثل ضُرب لقلب المؤمن.
أقـول:
و لا تعارض بين الأحاديث والأقوال المختلفة في هذا المجال، بل يمكن الجمع بينها فنور الله ليس هو إلا رسوله وهو متَّحد مع القرآن.
ثمَّ :
عندما نتأمَّل في الوسائط التي بيَّنتها الآية المباركة، وهي المشكاة، والمصباح، والزجاجة، سوف نعرف أنَّها لا تمنع من إشعاع النور أصلاً، بل من خلالها يتمكَّن الإنسان من معرفة ذلك النور الوضّاء الذي نوَّر السماوات والأرض، نور الله المطلق، فلا مجال للإنسان أن يشاهد النور الإلهي من غير الانطلاق منها، فهل للخفاش أن يوصف الشمس المضيئة للعالم؟ فما هو الحلّ إذاً؟
الحلّ إنَّما هو التوسُّل بتلك الوسائط والتقرُّب إليها كما مرَّ.
ومما ينبغي ذكره أنَّه تعالى بعد ذكر تلك الوسائط قال :
{نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (النور35)
فمعرفة الأنوار الإلهيَّة ليست من السهل لأيِّ إنسان، بل تفتقر إلى قابلية وتهيُّأ، وهذا لا يحصل إلا بمشيئته الله سبحانه.
ولعلَّ هذا المقطع من الآية إشارة إلى ذلك النور الإلهي الغائب بقيَّة الله في الأرضين الحجَّة بن الحسن المهدي عجَّل الله تعالى فرجه الشريف في خصوص عصر غيبته، حيث أنَّ النور في الآية أضيف إلى الضمير الغائب أعني "لِنُورِه" وأخفى إسم من أسماءه تعالى هو الهاء، كما أنَّ قوله تعالى :
{وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا...} (الزمر69)
يشير إلى عصر ظهوره صلوات الله وسلامه عليه، حينما ينتشر ذلك النور فينوِّر الأرض، وقد ورد في هذا المجال حديث طويل، عن محمد بن أبي عبد الله عن جعفر بن محمد عن القاسم بن الربيع عن صباح المزني عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام (حين ظهور المهدي) :
((يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزؤون بنور الإمام)) (البحار ج7 ص326 روايه1 باب17)
وفي الزيارة الجامعة الكبيرة :
((وأشرقت الأرض بنوركم)) (البحار ج102 ص129 روايه4 باب
ولا يخفى لطافة التعبير في الآية حيث أضيف النور إلى الربّ، في قوله "بِنُورِ رَبِّهَا " وهو أجلى وأظهر أسمائه تعالى.
وفي حديث آخر :
((الكوكب الدرِّي القائمُ المنتظر عليه السلام، الذي يملأ الأرض عدلاً)) (معجم أحاديث الإمام المهدي جلد5 صفحة273)
وعن ابن محبوب عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال :
(( قال لي: لا بدَّ من فتنة صماء صيلم، يسقط فيها كل بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي يبكى عليه أهل السماء وأهل الأرض وكلّ حريٍّ وحرّان وكلّ حزين لهفان، ثم قال : بأبي وأمي سميّ جدي وشبيهي وشبيه موسى بن عمران (عليه السلام)، عليه جيوبُ النور تتوقَّد بشعاع ضياء القدس)) (بحار الأنوار ج51 ص152 روايه2 باب
ونفس النص قد صدر عن أمير المؤمنين عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم (بحار الأنوار ج51 ص108 روايه42 باب1)
ثمَّ قال تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ*رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (النور36،37)
فتلك الأنوار إنَّما هي في بيوت، فما هي تلك البيوت التي احتملت الأنوار المعنويَّة؟
هذا ما يجيب عنه أئمتنا عليهم السلام معتمدين على الآية نفسها.
فالقرآن يشتمل على ظاهر وباطن وقد أشار سبحانه إلى باطنه بقوله:
{وما يعلم تأويله إلا الله} (آل عمران7)
فالظاهر ورود هذه الآية في المساجد. فالمسجد له الأهمية القصوى في الإسلام، لأنه مكان أداء أقدس الأعمال ألا وهو الصلاة.
فالمسجد في ظاهره ليس إلا عبارة عن بناء مكوَّن من التراب والصخر والحديد وكلّها جمادات، إلا أنها لإضافتها باسم الربّ تعالى، فإن شأن المسجد يختلف عن سائر البيوت في الدنيا والآخرة، كما تؤكِّد على ذلك الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة.
بيت النبوَّة والإمامة
ولله أيضاً بيوت ليست من الصخر والطين والحديد، بل إنها من العقل والروح والقلب فهي مختلفة عن سائر البيوت. إن المسجد بيتٌ لإقامة الصلاة، أما بيت العقل والروح والقلب فسكّانه المعرفة والعلم بالله.
وهذا البيت الروحاني هو المقصود الباطني لهذه الآية. فالقلب هو المسجد وبيت الله الحقيقي، وهو مسكن للمعرفة والتوحيد والأسماء الحسنى الإلهية.
ولذلك نعرف السرّ في أهميَّة مشاهد الرسول والأئمة عليهم السلام حيث يجري عليها أحكام المساجد.
ففي روضة الكافى عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل : "فى بيوت أذن الله أن ترفع" قال :
((هي بيوت النبي صلى الله عليه وآله))
وأيضاً :
لما قدم قتادة -وكان فقيهاً عالماً لا يتزعزع أمام كبار العلماء- على الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، وقبل أن ينطق قال له الإمام عليه السلام :
(("ويحك يا قتاده، إن الله تعالى خلق خلقاً من خلقه فجعلهم حججاً على خلقه، وهم أوتادٌ في أرضه، قّوامٌ بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه، أظلّة عن يمين عرشه". قال : فسكت قتاده طويلاً، ثمّ قال : أصلحك الله، والله لقد جلستُ بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك! فقال أبو جعفر عليه السلام : "أتدري أين أنت؟ بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبِّح له فيها بالغدوّ والآصال رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ونحن أولئك". فقال قتادة : صدقت والله، جعلني الله فداك، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين!)) (بحار الأنوار ج10 ص155 والكافي ج6 ص265 ح1